سورة طه - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير أمر التوحيدِ الذي إليه انتهى مَساقُ الحديث وبيانِ أنه أمرٌ مستمرّ فيما بين الأنبياء كابراً عن كابر، وقد خوطب به موسى عليه الصلاة والسلام حيث قيل له: {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} وبه ختَم عليه الصلاة والسلام مقالَه حيث قال: {إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ} وأما ما قيل من أن ذلك لترغيب النبيِّ عليه الصلاة والسلام في الائتساء بموسى عليه الصلاة والسلام في تحمل أعباءِ النبوة والصبرِ على مقاساة الخطوبِ في تبليغ أحكامِ الرسالة، فيأباه أن مساقَ النظمِ الكريم لصرفه عليه الصلاة والسلام عن اقتحام المشاقِّ، وقوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَاراً} ظرفٌ للحديث، وقيل: لمضمر مؤخّر أي حين رأى ناراً كان كيتَ وكيت، وقيل: مفعولٌ لمضمر مقدّم أي اذكرْ وقتَ رؤيته ناراً. روي أنه عليه الصلاة والسلام استأذن شعيباً عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمّه وأخيه فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق مخافةً من ملوك الشام، فلما وافى واديَ طُوًى وهو الجانبُ الغربيُّ من الطور وُلد له وَلدٌ في ليلة مظلمةٍ شاتية مُثلجة وكانت ليلةَ الجمعة وقد ضل الطريقَ وتفرّقت ماشيتُه ولا ماءَ عنده، وقَدَح فصَلَد زندُه، فبينما هو في ذلك إن رأى ناراً على يسار الطريق من جانب الطور {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا} أي أقيموا مكانَكم، أمرهم عليه الصلاة والسلام بذلك لئلا يتْبعوه فيما عزم عليه عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى النار كما هو المعتادُ، لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخرَ فإنه مما لا يخطُر بالبال، والخطابُ للمرأة والولدِ والخادمِ، وقيل: لها وحدها والجمعُ إما لظاهر لفظ الأهلِ أو للتفخيم كما في قول مَنْ قال:
وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكمُ ***
{إِنّى آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتُها إبصاراً بيّناً لا شُبهةَ فيه، وقيل: الإيناسُ خاصٌّ بإبصار ما يؤنَس به والجملةُ تعليلٌ للأمر أو المأمورِ به {لَّعَلِّى ءًاتِيكُم مِّنْهَا} أي أجيئكم من النار {بِقَبَسٍ} أي بشُعلة مقتبَسةٍ من معظم النارِ وهي المُرادةُ بالجذوة في سورة القَصص وبالشهاب القبسُ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} هادياً يدلني على الطريق على أنه مصدرٌ سمّي به الفاعلُ مبالغةً، أو حُذف منه المضافُ أي ذا هدايةٍ، أو على أنه إذا وُجد الهادي فقد وجد الهُدى، وقيل: هادياً يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكارَ الأبرارِ معمورةٌ بالهمّة الدينية في عامة أحوالِهم لا يشغَلهم عنها شاغلٌ، والأولُ هو الأظهرُ لأن مساقَ النظمِ الكريم لتسلية أهلِه، وقد نُصّ عليه في سورة القَصص حيث قيل: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} الآية، وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوِّ دون منْعِ الجمعِ، ومعنى الاستعلاء في قوله تعالى: {عَلَى النار} أن أهلَ النارِ يستعلون المكانَ القريب منها أو لأنهم عند الاصطلاءِ يكتنفونها قِياماٍ وقعوداً فيُشرفون عليها. ولما كان الإتيانُ بهما مترقَّباً غيرَ محقَّقِ الوقوعِ صُدّر الجملة بكلمة الترجي، وهي إما علةٌ لفعل قد حذف ثقةً بما يدل عليه من الأمر بالمُكث والإخبار بإيناس النارِ وتفادياً عن التصريح بما يوحشهم، وإما حالٌ من فاعله أي فأَذهب إليها لآتيَكم أو كي آتيَكم أو راجياً أن آتيَكم منها بقبس.. الآية، وقد مر تحقيق ذلك مفصلاً في تفسير قوله تعالى: {قَدِيرٌ ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}


{فَلَمَّا أتاها} أي النارَ التي آنسها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: رأى شجرةً خضراءَ أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نارٌ بيضاءُ تتقدُ كأضْوإ ما يكون، فوقف متعجباً من شدة ضوئها وشدةِ خُضرة الشجرة فلا النارُ تُغيّر خضرتها ولا كَثرةُ ماء الشجرة تُغيّر ضوءَها. قالوا: النارُ أربعةُ أصنافٍ: صنفٌ يأكل ولا يشرب وهي نارُ الدنيا، وصنفٌ يشرب ولا يأكل وهي نارُ الشجرِ الأخضر، وصنفٌ يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنفٌ لا يأكل ولا يشرب وهي نارُ موسى عليه الصلاة والسلام، وقالوا: هي أربعةُ أنواعٍ: نوعٌ له نورٌ وإحراقٌ وهي نارُ الدنيا، ونوع لا نورَ له ولا إحراقَ وهي نارُ الأشجار، ونوعٌ له نورٌ بلا إحراقٍ وهي نارُ موسى عليه الصلاة والسلام، ونوعٌ له إحراقٌ بلا نور وهي نارُ جهنم. روي أن الشجرة كانت عَوْسَجةً، وقيل: كانت سَمُرة {نُودِىَ ياموسى} أي نودي فقيل: يا موسى {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} أو عومل النداءُ معاملةَ القول لكونه ضرباً منه، وقرئ بالفتح أي بأني، وتكريرُ الضمير لتأكيد الدليلِ وتحقيقِ المعرفة وإماطةِ الشبهة. روي أنه لما نودي يا موسى، قال عليه الصلاة والسلام: من المتكلم؟ فقال الله عز وجل: «أنا ربك» فوسوس إليه إبليسُ: لعلك تسمع كلامَ شيطان، فقال: أنا عرفتُ أنه كلامُ الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهاتِ بجميع الأعضاء. قلت: وذلك لأن سماعَ ما ليس من شأنه ذلك من الأعضاء ليس إلا من آثار الخلاق العليم تعالى وتقدس، وقيل: تلقّى عليه الصلاة والسلام كلامَ رب العزة تلقياً روحانياً ثم تمثل ذلك الكلامُ لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهه {فاخلع نَعْلَيْكَ} أُمر عليه الصلاة والسلام بذلك لأن الحفْوةَ أدخلُ في التواضع وحسنِ الأدب، ولذلك كان السلفُ الصالحون يطوفون بالكعبة حافين، وقيل: ليباشر الواديَ بقدميه تبركاً به، وقيل: لما أن نعليه كانتا من جلد حمارٍ غيرِ مدبوغ، وقيل: معناه فرِّغْ قلبَك من الأهل والمال، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات الأمر وداوعيه وقوله تعالى: {إِنَّكَ بالواد المقدس} تعليلٌ لوجوب الخَلْع المأمور به وبيانٌ لسبب ورودِ الأمر بذلك من شرف البُقعة وقُدْسِها، روي أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي {طُوًى} بضم الطاء غيرُ منوّن، وقرئ منوناً، وقرئ بالكسر منوناً وغيرَ منّون، فمَنْ نوّنه أوّله بالمكان دون البقعة، وقيل: هو كثني الطي مصدرٌ لنوديَ أو المقدس أي نودي نداءين أو قُدّس مرة بعد أخرى.


{وَأَنَا اخترتك} أي اصطفيتك للنبوة والرسالة، وقرئ: {وأنّا اخترناك} بالفتح والكسر، والفاء في قوله: {فاستمع} لترتيب الأمرِ أو المأمورِ به على ما قبلها، فإن اختيارَه عليه السلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمرِ به، واللام في قوله تعالى: {لِمَا يُوحَى} متعلقةٌ باستمعْ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ، أي فاستمع الذي يوحى إليك أو الوحْيَ لا باخترتك كما قيل، لكن لا لما قيل من أنه من باب التنازُعِ وإعمالِ الأول فلا بد حينئذ من إعادة الضميرِ مع الثاني بل لأن قوله تعالى: {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} بدلٌ من (ما يوحى) ولا ريب في أن اختيارَه عليه الصلاة والسلام ليس لهذا الوحي فقط، والفاءُ في قوله تعالى: {فاعبدنى} لترتيب المأمورِ به على ما قبلها فإن اختصاصَ الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيصِ العبادةِ به عز وجل {اتل مَا} خُصت الصلاةُ بالذكر وأُفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتِها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبودِ وشُغل القلبِ واللسانِ بذكره، وذلك قوله تعالى: {لِذِكْرِى} أي لتذكُرني فإن ذِكْري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادةِ والصلاة، أو لتذكُرني فيها لاشتمالها على الأذكار، أو لذكري خاصةً لا تشوبُه بذكر غيري، أو لإخلاص ذكري وابتغاءِ وجهي لا تُرائي بها ولا تقصِدُ بها غرضاً آخرَ، أو لتكون ذاكراً لي غيرَ ناس، وقيل: لذكري إياها وأمْري بها في الكتب، أو لأنْ أذكُرَك بالمدح والثناء، وقيل: لأوقات ذكري وهي مواقيتُ الصلاة، أو لذِكْر صلاتي لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من نام عن صلاة أو نسِيَها فليصلِّها إذا ذكرها لأن الله تعالى يقول: {إِنَّنِى أَنَا الله}». وقرئ: {لذكرى} بألف التأنيثِ وللذكرى معرفاً وللذكْر بالتعريف والتنكير وقوله تعالى: {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ} تعليلٌ لوجوب العبادة وإقامةِ الصلاة أي كائنةٌ لا محالة، وإنما عُبّر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرِض أمرٍ محققٍ متوجِّهٍ نحو المخاطبين {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي لا أظهرها، بأن أقول: إنها آتيةٌ، ولولا أن ما في الإخبار بذلك من اللطف وقطعِ الأعذار لما فعلتُ، أو أكاد أظهرُها بإيقاعها من أخفاه إذا أظهره بسلب خفائِه، ويؤيده القراءةُ بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره، وقيل: أخفاه من الأضداد يجيء بمعنى الإظهار والسَّترِ. وقوله تعالى: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} متعلقٌ بآتيةٌ، وما بينهما اعتراضٌ أو بأخفيها على المعنى الأخير، وما مصدرية أي لتُجزى كلُّ نفس بسعيها في تحصيل ما ذُكر من الأمور المأمور بها، وتخصيصُه في معرِض الغاية لإتيانها مع أنه لجزاء كلِّ نفس بما صدر عنها سواءٌ كان سعياً فيما ذكر، أو تقاعداً عنه بالمرة، أو سعياً في تحصيل ما يُضادّه للإيذان بأن المرادَ بالذات من إتيانها هو الإثابةُ بالعبادة، وأما العقابُ بتركها فمن مُقتَضَيات سوءِ اختيارِ العصاة وبأن المأمورَ به في قوة الوجوبِ والساعةَ في شدة الهول والفظاعة يوجِبان على كل نفسٍ أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجِدَّ في تحصيل ما ينجّيها من الطاعات، وحينئذ تحترز عن اقتراف ما يُرديها من المعاصي، وعليه مدارُ الأمر في قوله تعالى: {وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فإن الابتلأَ مع شموله لكافة المكلفين باعتبار أعمالِهم المنقسمةِ إلى الحسن والقبيح أيضاً لا إلى الحسن والأحسَن فقط قد عُلّق بالأخيرين، لما ذكر من أن المقصودَ الأصليَّ من إبداع تلك البدائعِ على ذلك النمط الرائعِ إنما هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوه الرائقةِ وأكملِ الأنحاءِ اللائقةِ يوجب العملَ بموجبه بحيث لا يحيد أحدٌ عن سَننه المستبين، بل يهتدي كلُّ فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة، وإنما التفاوتُ بينهم في مراتبهما بحسب القوة والضعفِ، وأما الإعراض عن ذلك والوقوعُ في مهاوي الضلال فبمعزل من الوقوع فضلاً عن أن ينتظم في سلك الغايةِ لذلك الصنعِ البديع، وإنما هو عملٌ يصدُر عن عامله بسوء اختيارِه من غير مصحِّحٍ له أو مسوِّغ. هذا ويجوز أن يُراد بالسعي مطلقُ العمل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8